﴿ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ﴾
﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ — ﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾
في رحاب هذه الآية العظيمة من سورة الحج، نقف اليوم وقفة تأملية في مشهد قرآني يفيض سخرية من الأوثان والمعبودات الزائفة، ويهزّ وجدان المتأمل هزًّا، ليُعيد بوصلة الإدراك إلى جلال القدرة الإلهية التي لا تضاهى.
● أولًا: تفسير الآية
يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ﴾ ﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ ﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾
يضرب هذا المثل البليغ في تقريع الذين أشركوا بالله أصنامًا وأوهامًا لا تملك لأنفسها نفعًا ولا ضرًا، فكيف لمن يُعبَد أن يعجز عن خلق أهون المخلوقات؟ بل الأعجب أن يُسلب منها شيءٌ تافهٌ بواسطة ذباب، فلا تملك دفاعًا ولا استردادًا!
الذباب في هذا السياق ليس مجرد حشرة، بل رمز للإذلال والحقارة التي تصيب الآلهة الباطلة، إذ تُجرد من أبسط أشكال القوة، فيأتي الحكم القاطع من الله: "ضعف الطالب والمطلوب" — أي ضعف العابد والمعبود، المسلوب والسالب.
ثم تأتي القاصمة: "ما قدروا الله حق قدره" — أي ما عظّموه كما ينبغي لعظمته، وما عرفوه كما هو، ملك الملوك وخالق الذباب ومن دونه.
● ثانيًا: دلالات الألفاظ
* ﴿ يسلبهم ﴾: السلب أخذ الشيء بالقهر، وفيه معنى الإهانة، إذ يُصوَّر الذباب وكأنه يغلب معبوديهم.
* ﴿ لا يستنقذوه ﴾: أي لا يستطيعون استرجاع ما أُخذ، منقوصي القوة عاجزين.
* ﴿ ضعف الطالب والمطلوب ﴾: تلازم لفظي بديع يجمع المتناقضين في الذل، من يطلب النفع (العابد)، ومن يُطلب منه النفع (المعبود).
* ﴿ ما قدروا ﴾: التقدير هنا بمعنى التوقير والتعظيم، فهم لم يعرفوا لله قدره ولم يقدّروه المعرفة اللائقة بجلاله.
● ثالثًا: الإعجاز اللغوي والبلاغي
الآية في بنيتها تحمل طاقة هائلة من التوبيخ والسخرية الملفتة، ومن الإعجاز البلاغي فيها:
* الاقتصاد اللفظي الشديد مع عمق المعنى، فالجملة القصيرة ترسم مشهدًا رهيبًا ومضحكًا في آن.
* التقابل بين "الطالب والمطلوب" بصيغة اسم الفاعل واسم المفعول، يعطي انكسارًا مزدوجًا للطرفين.
* التحقير بالتصغير: الذباب هو المثل الأقرب للتفاهة، وقد جاء ذكره هنا لتعظيم المفارقة، إذ أن حتى هذا الحقير أعزّ من أصنامهم.
* بلاغة التركيب "ما قدروا الله حق قدره" تختم المعنى بخاتمة تهتزّ لها القلوب، بيانًا لفقدان البصيرة والجهل بجلال الله.
● رابعًا: الإعجاز العلمي
العجيب أن اختيار الذباب لم يكن عبثًا — فهذه الحشرة الصغيرة تملك من الخصائص ما يُدهش العلم الحديث. ومن أبرز الاكتشافات:
الذباب هو الكائن الوحيد المعروف حتى الآن الذي يُحوِّل الطعام إلى مادة مهضومة في فمه قبل أن تصل إلى جوفه، إذ أن لعابه يحتوي على إنزيمات هاضمة تبدأ عملها بمجرد ملامسة الطعام.
فلو وضع شيئًا من الطعام على جسد صنم أو معبود، ثم جاء الذباب فلامسه وسلبه، فإن هذا الشيء لا يمكن استرجاعه، لأنه تحوّل كيميائيًّا في فمه!
فسبحان من أوحى بهذا المعنى العميق في صورة بلاغية مذهلة، لم يكتشف العلم بُعدها إلا بعد قرون.
● خامسًا: الخلاصة والتأمل
هذه الآية ليست فقط دعوة للتوحيد ونبذ الوثنية، بل ضربة قاضية لادعاءات القوة والقدرة التي يدّعيها البشر، أو ينسبونها لمخلوقات لا تملك من أمرها شيئًا.
الله وحده هو القادر، لا يُشرك معه في قدرته أحد، وهو من يُبدع في خلق الذباب كما يُبدع في خلق الكواكب والمجرات. وكل ما عداه، عبدٌ فقير، لا حول له ولا قوة إلا بالله.
في حضرة الكلمة الإلهية... لا نملك إلا أن نقول: ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾
------------------------
بقلم: خالد أحمد مصطفى